رؤى من أفلاك المدار

البينالي هو مرآة للحظةٍ في الزمن، يُقدِّم رؤيةً لكيفية فهم الحاضر من منظور المستقبل. يطرح تعددية في الرؤى ضمن إطار زمني قصير؛ مما يجعله مفتوحاً للتأويل، تاركاً استنتاجاته لوعي الزائر. وفي هذا السياق، يأتي “المدار” ليشكِّل استثناءً فريداً في عالم البينالي، إذ يجمع بين أعمال فنية تنتمي لعصور مختلفة، بالتعاون مع متاحف ومكتبات ومؤسسات ثقافية تُعنى عادةً باستحضار الماضي واستلهام الأفكار والفنون منه. يتحدى “المدار” مفهوم البينالي التقليدي ويعيد صياغته. فبدلاً من اقتصاره على اللحظة التي أُبدعت فيها الأعمال الفنية، يُركِّز على اللحظة التي تُعرَض فيها، مقدِّماً رؤى معاصرة حول الفن الإسلامي. كما يُمعن النظر في طبيعة هذا الإطار نفسه ويطرح تساؤلات عن قدرة البينالي في تغيير الأساليب التقليدية لدراسة الفنون الإسلامية، ومدى أهميتها في القرن الحادي والعشرين. ولذلك تأتي كل دورة من “المدار” لتقدِّم، عبر تنوّع وجهات نظر وخبرات فريقها، إجابات جديدة ومبتكرة لهذه التساؤلات.

توسَّعت آفاق “المدار” في هذه النسخة بشكلٍ لافت مقارنةً بنسخته الافتتاحية عام 2023. فبينما كان الهدف الأولي يتمثّل بتقديم المجموعات الفنية العالمية في فضاء واحد، تطوَّر المشروع ليصبح مبادرة أوسع وأعمق، بحيث يسعى “المدار” اليوم إلى أن يكون محفِّزاً للحوار الفكري وتبادل الخبرات والبحث المبتكر. في ظلّ هذه الرؤية المتجدّدة، بات التنوّع الثقافي جوهرياً. ومع إدراك أن مناطق كأفريقيا وشرق وجنوب شرق آسيا غالباً ما تُهمَل في السرديات التقليدية للفن الإسلامي، جرى التعاون مع متاحف ومؤسسات تعكس مقتنياتها التاريخ المتنوّع، ليعكس هذا النهج الاحتفاء بالثراء الذي لطالما شكّل ملامح الفن والثقافة الإسلامية. وبعد شهورٍ من النقاشات مع مؤسسات وزملاء من مختلف أنحاء العالم، تم إعداد قائمة المشاركين التي تضمُّ أكثر من 34 مؤسسة تمثِّل ما يزيد على 20 دولة، حيث يجتمع فيها تميُّز الأداء مع عراقة التراث المعروض. وتشمل
القائمة مؤسسات شاركت في النسخة الأولى، إلى جانب شركاء جدد انضموا إلى هذا المشروع الريادي؛ ليواكبوا مرونة
جدول البينالي ومتطلّباته.

لجمع إسهامات هذه المؤسسات المتنوّعة؛ كان لا بد من توحيد الرؤية. وهكذا برزت فكرة “فن الأرقام” كمسار مستوحى من إرث العقول المسلمة العظيمة، وصولاً إلى الإمكانات الإبداعية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي. وتوسَّعت هذه الفكرة لتصبح استكشافاً شاملاً لمعاني الأرقام ودلالاتها، سواء من حيث أبعادها الأساسية أو تجلياتها المادية. فالأرقام، على بساطتها الظاهرة، تحمل عمقاً لا يحدُّه وصف. فهي عالمية في فهمها، لكنها تخفي بين طياتها ألغازاً لا يسهل سبرها، وهي جزء أصيل من هندسة الخلق، تصل بين الأرض والسماء. كما أسهمت الأرقام بدورٍ محوريٍّ في الفن الإسلامي؛ لتشكِّل على مدى
قرون بصمة من الإبداع الفني. أحياناً تكون ظاهرة في الأنماط والزخارف، وأحياناً أخرى مستترة في الهندسة الدقيقة
أو البنى العميقة للأعمال الفنية.

لم يفرض “المدار” قيوداً على كيفية تفسير المشاركين لموضوع الأرقام، بل اكتفى بتوجيهات عامة ركَّزت على عرض أعمال كل مؤسسة بشكل مستقل؛ انسجاماً مع مؤسسة بينالي الدرعية في إبراز الحضور الدولي المتنوّع في جدة. وقد شجَّعنا كل مؤسسة على التركيز على فكرة محورية واحدة تُشكّل نواة عرضها؛ مما فسح المجال لاستجابات إبداعية تستلهم من طبيعة كل مجموعة فنية. من خلال المقترحات الأولية، بدأت ملامح مشتركة في الظهور: الأرقام كما تُستشَفّ من العالم الطبيعي، كمرشد للاتجاه أو مؤشر للزمن. وبرزت موضوعات أخرى تتعلّق بتوظيف البشر للأرقام، مثل: العملات، والأوزان، والهندسة، والرياضيات، والفلك، والرمزية، والملاحة، والتصميم. ويمكن تصنيف هذه المفاهيم ضمن إطارين رئيسيين، وهما ”استيعاب نظام الكون“ و“استلهام من عوالم الجمال والتناغم”؛ بما ينسجم مع موضوع البينالي “وما بينهما”.

في ورشة عمل عُقدت في الرياض في فبراير 2024، اجتمع ممثِّلون عن المؤسسات المشاركة مع فريق “المدار” لتبادل الرؤى حول سردية المعرض. ومن هذه النقاشات انبثقت فكرة إنشاء “جُزر” حيث جُمعت أعمال من مجموعات مختلفة، بالإضافة إلى الفضــاءات المخصصـــة لكل مؤسســـــة. وأتاحت هذه الجُزر سرد قصص متعمِّقة حول شـــخصيــــات فذّة مثل عبدالرحمن الصوفي ومحمد بن موسى الخوارزمي، أو إعادة توحيد مقتنيات من نفس الحقبة والمكان، والتي تفرَّقت عبر مجموعات منتشرة في أنحاء العالم.

في ظـلّ هـذه المـوضـوعـات، بـدأت الـروابط بـين استجـابـات المـؤسـسـات تتبـلور في أقـسام تُـشـكِّـل تـسلسـلاً مـنظَّماً ومُـنـحـت لـهـا العناوين التالية: “العلوم والنجوم”، و“الإيمان والإحْسَان”، و“عَبْرَ البَرّ والبحر”، و”التَّنْمِيق والتَّزْوِيق . و الرُّمُوز المَكْنُونَة و التَّصْمِيم والتَّفْخِـيم“. ويُــقـدّم هـذا الـتسـلسـل مسـاراً إرشـادياً يـربـط بين الـعـروض والـمـئـات مـن الـقـطـع الـفـنية الـمـعـروضـة. تـنوّع المـعروضـات مـذهـل، ويـشمل أعـمالاً غنيّة، مـثل: مـخطوط من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي عن الفيزياء السـماوية بجـانب دليل كـوكـبات مسـتوحى من الشـعـر العـربي القـديم، وخـريطة لـلنيل تـعود إلى القرن الـحـادي عـشر الهـجري/السابع عشر الميلادي، وورقة من مصحف تونسي من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي أوقفته سيدة، ولفافة معمارية من بخارى تعود إلى القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي.

نقطة البداية في المعرض هي الأسطرلاب، الذي يستقبل الزائر عند مدخل قاعة “المدار”. تعكس هذه الأداة، بجمال تصميمها وتعدّد وظائفها، جوهر موضوع الأرقام، إذ استُخدم لحساب حركات الكواكب وتحديد الاتجاه. ويجمع مسك الختام بين سقف وسجادة، يوحِّدهما تصميم هندسي، في إشارة رمزية إلى السماء والأرض؛ تجسيداً لمفهوم “وما بينهما”.

كان دمج الأعمال المعاصرة في السرد ضرورة لتأكيد أن الإبداع لا تحدّه الأزمنة، فما كان تقليداً يوماً كان معاصراً في حينه، وفنون اليوم تستلهم جذورها من هذا الإرث. عمل قيّم الفن المعاصر في بينالي الدرعية، مهند شونو، وفريقه بالتعاون مع فريق “المدار” على اختيار فنانين تتناغم أعمالهم مع روح المعرض. وكانت النتيجة تكليفات جديدة لفنانين مثل: مهدي مطشر، وتشاروي تساي، وتيمو ناصري، الذين تفاعلوا بأساليب متنوّعة مع الأفكار التي طرحتها هذه النسخة. تُعرَض هذه الأعمال في تناغُمٍ جميلٍ مع القطع التاريخية؛ مما يعزِّز الوصل بين الماضي والحاضر في تجربة بصرية وفكرية ثرية.

تُقدَّم الفنون الإسلامية في هذا البينالي ضمن إطارها الكلاسيكي، حيث تعكس المعروضات تعريفها التقليدي بأبهى صورها. فتبدو القطع التاريخية مألوفة لزوار قاعات الفنون الإسلامية حول العالم، غير أنّ بعضها يتميز بندرة استثنائية وأهمية ثقافية عميقة. ويأتي اختيار المملكة العربية السعودية، بجوار الحرمين الشريفين؛ ليُبرز الأهمية الدائمة للفنون الإسلامية في سياقها الجغرافي والديني. وكما ذكرنا، فإنّ تقديم الفنون الإسلامية خارج سياقها الثقافي يُبرِز بشكلٍ جليٍّ تنوّعَها، بما ينطوي عليه من سرديات تاريخية ولغات ومظاهر دينية وثقافية. أما داخل السعودية، .فإن أرضها تحتضن مزيجاً فريداً من الثقافات المتعدِّدة. وتجسِّد مدينة جدة، كبوابة إلى مكة المكرمة، هذا التنوّع بامتياز، إذ تستقبل ملايين الحجاج من شتى بقاع الأرض، فتغتني بتجاربهم كما تُغنيهم بتجربتها الفريدة.

يجدِّد هذا البينالي القوالب التقليدية، بإعادة صياغة طريقة عرض الفنون الإسلامية. فدمج القطع التاريخية في سياق حديث ومدروس يمنحها أبعاداً جديدة، تتناسب مع طرقنا المعاصرة لفهم الفنون ومقاربتها في القرن الحادي والعشرين. وفي هذا السياق، تصبح دروس الماضي أكثر وضوحاً في مثل هذا البينالي مما هي عليه في قاعات المتاحف التقليدية. ومع هذا التحول في التأثير الفكري نحو الشرق، وإعادة صياغة المتاحف لرؤاها حول عرض مقتنياتها، يقدِّم بينالي الفنون الإسلامية نموذجاً رائداً لما يمكن أن يكون عليه المستقبل.

يمثِّل تمديد نطاق تمثيل الفنون الإسلامية ليشمل العصور الحديثة والمعاصرة خطوة جوهرية في إعادة تموضعها. ورغم أن التراثي والمعـــاصر يُنظر إليهما عادةً كطـــرفين متباعدين، فإن كليهمـــا ينهل من قرونٍ من الإبداع المتواصل. يأتي هذا الامتداد ليجدِّد التصورات النمطية عن حقبة التراجع أو إغلاق أبواب الابتكار والإبداع، مؤكِّداً على استمرارية التجديد الفني. ورغم أن هذه النسخة لم تتمكَّن من استقطاب أعمال تمثِّل القرون 18 و19 و20، إلا أننا نطمح إلى تحقيق هذا الهدف في النسخ القادمة.

تمثِّل أبرز نجاحاتنا في هذا البينالي إعادة صياغة السردية الفنية ذاتها. فقد أعدنا التفكير في رحلة المعرض، مع فسح المجال لأصوات القيّمين من المؤسسات المشاركة، والتركيز على نهج استقصائي بدلاً من أحكام قاطعة. سعينا إلى منح الزوار تجارب متعددة تتيح لهم تفسيرات غنية للفن الإسلامي. كما كان التنوع الكبير في المشاركين مصدر إثراء للتجربة. أما بالنسبة للمشاركين أنفسهم، فقد وفَّر “المدار” فرصة ثمينة لتعزيز العلاقات فيما بينهم، وكانت الشراكات التي انبثقت عن هذا المشروع واحدة من أبرز ثماره.

مع ختام هذه الرحلة التي امتدّت عبر أشهر من النقاش والتفاعل والسفر والتجارب، نتقدَّم بجزيل الشكر لزملائنا في “المدار”، وللقيّمين ومديري المؤسسات الذين أعاروا أعمالهم الفريدة بسخاء. كما نتوجَّه بخالص الشكر إلى قيادة مؤسسة بينالي الدرعية، التي كانت رؤيتها ودعمها مصدر إلهام لهذه الرحلة الفريدة.

د. عبد الرحمن عزام (المدير الفني)
ماسة الكتبي (مدير معرض المدار)
د. هيذر إيكر (قيّم فني)
د. ماريكا سردار (قيّم فني)